ما الداعي إلى فتح شعبة علم الاجتماع والأنثربولوجيا؟ ما هي المبررات الموضوعية التي تؤسس لهذا المشروع العلمي الأكاديمي؟ وهل من إضافات نوعية يحتملها هذا التخصص في الجامعة الأفروآسيوية حول مواضيع أُشبعت درسا وتحليلا من قبل باحثين من قارات علمية وسجلات ثقافية وزمنية مختلفة؟ فما أنتج حول المجتمع الأفريقي والأسيوي، في السياسة، والتاريخ، والاقتصاد، والقانون، والآدب، والجغرافيا…. لما بعد الاستقلال بعض الدول عصي على الجرد بدقة متناهية، فما الداعي مرة أخرى إلى ملحاحية خلق شعبة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا؟

حتما هو السياق الكفيل دوما بإنتاج المعنى، وراهنية المجتمع الإفريقي والأسيوي ودينامية الدول الأعضاء، تستوجب تعميق السؤال العلمي من أجل فهم طبيعة التحولات التي تمس القيم والعلاقات والرموز والأنساق داخل المجالات القروية والحضرية.

فكثيرة هي العلوم والتقنيات والصناعات التي يحتاج إلها المجتمع اليوم من أجل أن ينهض ويتقدم، فالنهوض لا يتم من فراع، وإنما لابد من أدواته وآلياته واحتياجات،  وإذا كان المجتمع الأفروآسيوي بحاجة ماسة إلى التقنية بكل أبعادها من أجل أن يظفر بمعركة المستقبل،  فإنه بحاجة ماسة أن يفهم نفسه، وأن يتعرف على مشكلاته، وأن يعي وعيا منهجيا أن العلاقة بين الجامعة والمجتمع علاقة عضوية وجدلية، لا تنفي إحداها الأخرى،  هي علاقة تحتاج اليوم إلى وعي علمي ومنهجي جامعي أكاديمي حتى تصبح مفهومة ومدركة ومعروفة في تجلياتها، وما هو كائن، وما يجب أن يكون، إلا أن هذه المعرفة تحتاج إلى أدواتها وعلومها وأبحاثها ودراساتها، ولا ريب أن علم الاجتماع والأنثروبولوجيا هو أحد هذه الحقول المعرفية التي يحتاج إليها المجتمع في معرفة نفسه، لأنها العلم الذي يدرس الإنسان ويتناوله بالتحليل لظروفه البيئية والاجتماعية، والسياسية والثقافية.

في ظل المتغيرات العالمية المتصارعة التي يشهدها العالم الإنساني الآن، تتعاظم أهمية العلم والمعلومات كأداة للتقدم الإنساني وتحقيق التنمية، وفى حال إقرارنا بأن العلوم الطبيعية هي سبيل المجتمعات نحو التقدم التقني والتكنولوجي، يكون لزاما ألا ننسى أن علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بدورها هي أداة للتخطيط لعمليات التنمية البشرية و الاجتماعية و محركا أساسيا لكافة عمليات التغير الاجتماعي وملجأ لفهم للحركات الاجتماعية، وذلك إن دل على شيء فإنه يدل على العلاقة المتبادلة بين الفكر المتمثل في العلم و بين الواقع ، فالعلم كشكل أعلى للمعرفة يتأثر بالواقع الاجتماعي، كما أن الواقع يصوغ الفكر ويشكله ويؤهله إلى التقدم وإسراع الخطى إلى المستقبل، كذلك فإن الفكر يسهم في تغيير الواقع والعمل على جعله أكثر ملائمة للفكر الحديث، وذلك عن طريق إعمال العقل وتبنى النزعة النقدية التي تجعل الإنسان أكثر وعيا وأكثر قدرة على إيجاد واقع اجتماعي يتلاءم مع حاجات الإنسان ومتطلباته.

 فعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا تعمل على رفع المستوى الذهني والفكري لدى أفراد المجتمع ومن ثم تزويد الفرد بمواقف واتجاهات سلوكية تعمل على خلق مجتمع قادر على الارتقاء بذاته والتكيف مع المستجدات والتحولات المعاصرة العالمية، وهذا ما دفع العالم المتقدم إلى الاعتماد عليها وتشجيعها والعمل على مساندتها من خلال تقديم كافة أنواع الدعم والإمكانات لها لكي تقوم بدورها في خدمة المجتمع وتنميته، وهذا يدل على مدى أهمية شعبة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا ومشاركتها في إحداث التقدم والتغير، فلم يعد إحداث التغير مقصورا على العلوم الطبيعية فحسب بل باتت السوسيولوجيا الأنثروبولوجيا قاسما مشتركا في عملية التغير، ذلك التغير الذي يمر به العالم أجمع والمجتمع الأفروآسيوي على وجه الخصوص، والذي اجتاح كثير من مظاهر الحياة على سطح الأرض وعمل على إحداث تحولات سريعة ومفاجئة أدت إلى قيام الإنسان المعاصر بتعديل رؤيته إلى العالم الجديد السريع التغير والبحث، عن معنى جديد للإرادة الإنسانية ومحاولته تحرير نفسه من القيود التي تكبل انطلاقه لتحقيق ذاته والقدرة على التعامل مع التحديات التي تواجهه ، والرغبة في التخلص من الأوضاع التي لا تتفق مع رؤيته الخاصة وطموحاته، وعلى ذلك يمكننا القول أن السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا بما تحويه من أفكار ومعارف تعمل على تعليم الإنسان كيفية الوصول إلى حقيقة أبعاد وضعه الإنساني في هذا العالم والتفتيش في أعماقه الداخلية لكي يستطيع التحكم في نتائج أفعاله والوصول إلى أهدافه دون أن يخل بالقيم والمبادئ والمعايير المتفق عليها في المجتمع الإنساني.

وللتوصل إلى إحداث تغيرا إيجابيا في المجتمع يجب أن تتوافر في الفاعلين الذين بهذا التغير عدة مقومات من أهمها الوعي والإرادة، فلكي يتم التغير لابد أن يكون لدى أفراد المجتمع وعيار وإدراكا بما يحيط بهم من وقائع وأحداث، وكذلك أن يكون لديهم إرادة قوية قادرة على الوصول إلى الأهداف المرغوب تحقيقها والتخطيط للمستقبل بطريقة واعية، وبقليل من التأمل سوف نجد أن كلا من “الوعي والإرادة” يتم خلقه وتنميته من خلال الاطلاع على علم الاجتماع والأنثروبولوجيا ودراستها، فهي تقوم بإذكاء روح المثابرة وإثراء الفكر الإنساني بمزيد من الأفكار و المعارف، التي من شأنها إعداد أفراد أكثر قدرة على تطبيق العلم والإدارة الحكيمة وخلق مستقبل أكثر تقدما واستقرارا، وبذلك يتمثل دور العلوم الاجتماعية في خلق الوعي والإرادة لدى أفراد المجتمع، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى المساهمة في تكوين الفكر وتنميته على المستويين الفردي والمجتمعي من خلال إنتاج المعرفة العلمية السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وتطبيقها عن طريق المؤسسات التعليمية والبحثية، الشيء الذي من شأنه أن يعمل على الارتقاء بالمستوى الفكري والمعيشي للفرد وللمجتمع.

إن التعليم في وقتنا الحالي لم يعد مجرد خدمة تؤدي لجماهير الشعب فحسب، بل إنه أصبح استثمارا قوميا من الدرجة الأولى، استثمارا يعمل على إعداد القوى البشرية التي تقوم على أكتافها مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، هذه المشروعات التي يجب أن تتوفر لها العمالة اللازمة بالعدد والنوع اللازم لكل نشاط، لذلك تهتم الأمم حاليا بتقدير العائد من عمليات التعليم كوسيلة من وسائل ضبط اقتصادياتها القومية، المادية والبشرية- وهذا الاهتمام يجب أن يكون موضع دراسة وعناية وخاصة بالنسبة للدول السائرة في طريق النمو، ويعتبر التعليم أهم الوسائل وأكثرها نفعا في هذا الاستثمار، فالدول المتقدمة ذات الموارد الكبيرة ترى في التعليم وسيلة وأداة لتأكيد نهضتها وتدعيمها، كما ترى فيه الدول النامية مجالا لتنمية الأفراد وتقوية شخصيتهم وبالتالي لتوفير الإنتاج وتحسينه.

وعليه يتوجب على الجامعة الأفروآسيوية أن تساءل هذه الإشكاليات التنموية في ذات المجالات القروية والحضرية ورهانات التحديث والعولة والتغير الاجتماعي، وتكتشف شروط إنتاجها وإعادة إنتاجها، أملا في اقتراح مقاربات عملية للتغيير والتجاوز، وهو ما لا يكون ممكنا إلا عبر تكوينات متخصصة تتأسس على ربط الجامعة بمحيطها السوسيو اقتصادي، ولهذا يأتي اقتراح خلق شعبة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، كمساهمة علمية وعملية في البحث عن ممكنات التنمية بالمجتمع الإفريقي والآسيوي.

إن علم الاجتماع والأنثروبولوجيا كعلم حديث النشأة أملنا أن يوطن داخل الجامعة الأفروآسيوية، وهي محاولة جادة  تسعى الجامعة من خلالها إلى دراسة الخصائص الثقافية المادية واللامادية والتحولات المجتمعية لهذه المجتمعات باعتبارها من البلدان التي عانت معايشة التغيرات الثقافية والقيمية، التي تحدث في العالم في إطار ما يسمى بالغزو الثقافي القيمي الناتج عن التطور العلمي والتكنولوجي والمنطوي تحث صفة العولمة، لقد أصبح الشغل الشاغل اليوم للعديد من الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية العمل على تأسيس شعبة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا واستثمارها لمعرفة المجتمع بصورة أفضل وأشمل، باعتبارها العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو كائن عضوي حي، يعيش في مجتمع تسوده نظم، وأنساق اجتماعية في ظل ثقافة معينة، ويقوم بأعمال متعددة: ويسلك سلوك محددا، وهي أيضا العلم الذي يدرس الحياة البدائية والحياة الحديثة المعاصرة، ويحاول التنبؤ  بمستقبل الإنسان معتمدا على تطوره عبر التاريخ الإنساني الطويل، لا تهتم بالإنسان الفرد كما تفعل الفسيولوجيا وعلم النفس، ولكنها تهتم بالإنسان الذي يعيش في جماعات وأجناس، والناس في أحداثهم وأعالهم، فهي علم دراسة الجماعات الإنسانية وسلوكها وإنتاجها، خلافا لمعظم الحيوانات لا يرتبط الإنسان بمحيط خاص به، فالكرة الأرضية بكاملها هي له، ومن خلال ثقافته اقل مع أوساط مختلفة، ومن خلال تكويناته البيولوجية في استطاعته اكتساب مجموعة واسعة من السلوكات، ذلك أنه لا يتطور داخل محيط طبيعي وحسب، بل هو يتطور أيضا ومن خلال مرحلة طويلة من التعلم في وسط اجتماعي وثقافي خاص.

وانطلاقا من هذا التوجه، و إيمانا من قناعتنا الراسخة من أن لعلم الاجتماع ولأنثروبولوجيا القدرة على الإسهام في إبراز معالم الهوية، ودورها في التاريخ البشري وتنمية الوعي الاجتماعي وتشخيص المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والنفسية ومعالجتها وتطوير التفكير النقدي المبدع وتنمية الموارد البشرية.

لهذه الاعتبارات الموضوعية يأتي خلق شعبة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بهدف تكوين أطر متخصصة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا سباقة على مستوى التخصص في العالم الأفروآسيوي ككل، أطر مساهمة في إعداد وتنفيذ وتتبع مشاريع التنمية، وتطوير المعارف والكفاءات، بشأن تحليل ودراسة الوقائع المجتمعية، كما يستهدف خلق التخصص إعداد الطالب علميا ومنهجيا لمواصلة البحث الأكاديمي في العلوم الاجتماعية، فضلا عن إقامة وتقوية جسور التعاون بين الجامعة وباقي المؤسسات المعنية بالتنمية.

ولأجل بلوغ هذه الأهداف نقترح في خلق شعبة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا تكوينا علميا وعمليا متعدد الأبعاد، يزاوج بين الأساس النظري والعمل التطبيقي، وهو ما سيمكن من تخريج أطر قادرة على العمل في القطاعين العام والخاص في المجالات ذات الصلة بالعالم القروي والحضري والتنمية المجالية، بالإضافة إلى تأهيل الخريجين للعمل في إطار التشغيل الذاتي عن طريق خلق مؤسسات للخبرة والدراسة والتأطير، أو العمل في إطار المؤسسات الوطنية والدولية.

إلى ذلك، يأتي هذا التخصص ليساهم علميا في توسيع دوائر النقاش، حول المجتمع الأفروآسيوي بكل مشاكله وإستشكالاته، في أبعاده التنموية وتجلياتها السياسة والاقتصادية والاجتماعية.